أصل تسمية المجتمع الحساني: بين "كلام البيظان" والحسانية

أصل تسمية المجتمع الحساني: بين
*سعيد فغراوي 01 أكتوبر 2025

يشكل المجتمع الحساني أحد أبرز التشكيلات الثقافية في الصحراء الكبرى، ممتدا من جنوب المغرب إلى موريتانيا، ومن أزواد ومالي إلى السنغال وغرب النيجر. هذا المجتمع، بثرائه التاريخي واللساني والأنثروبولوجي، ظل مرتبطا بتسميته التي أثارت فضول الباحثين: "الحسانية" أو "كلام البيظان". لكن هل تعود التسمية إلى أصول قبلية محددة؟ أم أنها اصطلاح لاحق فرضته اعتبارات سياسية واستعمارية؟
يرى بعض الدارسين أن التسمية ترجع إلى بني حسان، وهم فرع من قبائل المعقل العربية التي استقرت بالصحراء منذ القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، في سياق الهجرات العربية الكبرى من اليمن نحو الغرب الإفريقي. غير أن هذه الفرضية تبقى استنتاجا أكثر من كونها حقيقة مثبتة، لغياب أبحاث أثرية دقيقة تدرس البقايا المادية، مثل العمائر، القطع الفنية، الفخار، العظام، أو حتى أنماط الأكل، والتي قد تكشف عن أوجه الشبه والاختلاف. فالمجتمعات التي اعتمدت على الرواية الشفهية في توثيق تاريخها تحتاج إلى البحث الآثاري لرسم صورة أوضح، خاصة في ظل ميل بعض الدراسات إلى إسقاط الهوية الحالية على الماضي، مع أن الهوية ذاتها نتاج تطور تاريخي معقد.
بفضل نفوذهم العسكري والسياسي، فرض بنو حسان لهجتهم على المنطقة، فظهرت تدريجيا لغة جديدة سميت "الحسانية"، وهي مزيج من العربية الفصحى، وبقايا لهجات هلالية ومعقلية، مع تأثيرات صنهاجية وأمازيغية وإفريقية.
المصادر التراثية تشير إلى أن مصطلح "البيظان" كان أسبق من "الحسانية". فقد ذكر ابن حوقل (ت 364هـ) في كتابه صورة الأرض "البيضان" باعتبارهم جماعة في شمال السودان، كما أشار البكري (ت 487هـ) إلى حادثة قتل أمير زنجي على يد لمتوني صنهاجي وخوف نسائه من الأسر لدى البيظان. ووصف ابن خلدون صنهاجة اللثام بأنهم "أهل بياض" في مقابل السودان. وهو ما يعني أن الهوية في بداياتها ارتبطت بمفهوم "البيظان"، أي الجماعة العربية-الصنهاجية المتميزة عن السودان.
أما أصل مصطلح "الحسانية"، فقد تعددت حوله الروايات. فهناك من ربطه بحسان بن سرحان الهلالي، بطل التغريبة الهلالية، معتبرا أن انتشار اللهجة في الجغرافيا الهلالية (جنوب المغرب، موريتانيا، أزواد، الجزائر) يعزز هذا الاحتمال. وهناك من نسبها مباشرة إلى قبائل بني حسان التي بسطت نفوذها على الصحراء، رغم أن أعدادهم كانت محدودة مقارنة ببني هلال وسليم، وأن انتشار الحسانية تجاوز مجال سيطرتهم. بينما ذهب بعض الباحثين، مثل صاحب الوسيط في أدباء شنقيط، إلى أن المصطلح لم يرتبط بشخصية بعينها، بل استعمل لاحقا لوصف كلام مركب من العربية واللهجات المحلية. وهناك رأي مخالف تمامًا يربط التسمية بحسان بن النعمان الغساني، أمير إفريقية الأموي، الذي فرض العربية في الدواوين، معتبرا أن المصطلح انعكاس مبكر لمسار التعريب.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل دور الاستعمار الفرنسي في إعادة هندسة المصطلحات. فبدلا من "المجتمع البيظاني"، فرضت الإدارة الاستعمارية في الخمسينيات استعمال "المجتمع الحساني"، بدعوى أن الأول يحمل إيحاءات "عنصرية". وقد أشار أحمدو ولد حرمه في مذكراته إلى ضغوط الفرنسيين بين 1957-1959 لإقصاء مصطلح "البيظان". كما سجلت تقارير بعثة الأمم المتحدة إلى موريتانيا (1959) مخاوف القوميين العرب من طمس الهوية العربية والبيظانية، في مقابل فرض مصطلحات أكثر ضبابية مثل "المجتمع الحساني". وهو ما يكشف أن التسمية لم تكن بريئة، بل جزءا من محاولة استعمارية لتفكيك الهوية العربية-الإسلامية في المنطقة.
وتعبر الحسانية لغة هجينة يغلب عليها الطابع العربي (90 في المائة من مفرداتها عربية فصحى) مع بقايا أمازيغية وإفريقية (10 في المائة). اجتماعيا، تجسد قيم التقوى والكرم والتضامن. جغرافيا، تنتشر من واد نون جنوب المغرب إلى نهر السنغال، ومن الجزائر إلى أزواد وغرب النيجر. ورغم شيوع مصطلح "الحسانية"، فإن أهل المنطقة أنفسهم يفضلون مصطلح "كلام البيظان" باعتباره أقدم وأدق في التعبير عن هويتهم الثقافية
وظل الأدب الحساني أو "لغن" مرآة صافية للمجتمع الحساني، يوثق معاركه وهجراته وحياته اليومية ومقاومته للاستعمار. وهو رافد أساسي لفهم عمق هذه الثقافة ولسانياتها.
يتضح إذن أن مصطلح "الحسانية" ظهر متأخرا، سواء نسب إلى بني حسان أو إلى شخصية رمزية مثل حسان الهلالي، لكنه لا يعبر بدقة عن التاريخ العريق للهجة، في حين أن "كلام البيظان" هو التوصيف الأصيل الذي ورد في المصادر التراثية منذ القرن الرابع الهجري. أما فرض مصطلح "الحسانية"، فقد ارتبط بالسياسات الاستعمارية الفرنسية الرامية إلى تحييد البعد العربي-الإسلامي.
وعليه، فإن المجتمع الحساني ليس مجرد تسمية لغوية، بل فضاء حضاري متكامل جمع بين العرب والصنهاجية والأفارقة في إطار ثقافة بيظانية أصيلة.
وفي إطار التعريف بالمخزون الثقافي الغني الذي تزخر به ثقافة البيضان، سيتم إطلاق سلسلة من المنشورات التي ستسلط الضوء على هذا الإرث الحضاري المتجذر. وستشمل هذه المبادرة التعريف بالمخزن الثقافي والعادات والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال، إلى جانب إبراز نماذج من إبداعات مجتمع البيضان في مختلف مجالات الفنون والتراث الشفهي. كما ستتطرق هذه السلسلة إلى التعريف بالتركيبة القبلية في الجنوب المغربي، باعتبارها مكونا أساسيا في تشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية للمنطقة، ناهيك عن المشكل السياسي الدي فرض على المنطقة والحل العملي المقترح المتمثل في الحكم الذاتي وكيف سيساهم في طي مشكر عمر لسنوات.
صحفي متدرب *

 



تعليقات الزوّار

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي سكوبريس

اترك تعليقا

إقرأ أيضا