موسم سيدي المختار السباعي.... الأدوار الوطنية الأخرى

في قلب الجماعة الترابية سيدي المختار بإقليم شيشاوة، وعلى امتداد الخط الرابط بين مراكش والصويرة، ينتصب ضريح الولي الصالح سيدي المختار العبيدي، كمَعْلم روحي وعلمي، وجسر حي بين الشمال والجنوب، بين المغرب وصحرائه، وبين الموروث والتنمية. فهذا الضريح، الذي تحتضنه زاوية عريقة، ليس مجرد فضاء للعبادة، بل شاهد حضاري وذاكرة حية تختزل عمق الانتماء المغربي الجامع.
وُلد سيدي المختار بن إبراهيم بن سيدي عبيد السباعي حوالي سنة 1040هـ / 1630م، في منطقة شنقيط بموريتانيا الحالية، المعروفة بإشعاعها الثقافي والديني. ينتمي إلى قبيلة الشرفاء أولاد أبي السباع، المنحدرة من القطب الصوفي الولي الصالح عامر الهامل أبي السباع، والتي أسهمت في تأسيس زوايا ومدارس علمية في ربوع الغرب الإسلامي. حَطَّ سيدي المختار الرحال بالمغرب الأقصى، وتحديدًا في تامكروت حيث تَتلمذ في الزاوية الناصرية، قبل أن ينتقل إلى منطقة تغسريت ليؤسس زاويته التي ستصبح لاحقًا منارة للتربية الروحية والعلمية.
زاوية سيدي المختار العبيدي السباعي لم تكن مجرد مدفن وضريح عادي، بل شكلت مدرسة حقيقية لنقل علوم الدين وتزكية النفوس على نهج السلف الصالح، بعيدًا عن الشعوذة والانحراف. وقد عُرف عن سيدي المختار مناظراته الرصينة التي نالت تقدير السلطان مولاي إسماعيل، وخلّدت اسمه كأحد رجالات المعرفة والصلاح، حتى لقبه سيدي أحمد الخليفة الناصري بـ"ياقوتة المغرب"، اعترافًا بمكانته.
ورغم وفاته حوالي عام 1084هـ / 1673م، فإن زاويته ظلت حاضرة، وضريحه مقصدًا للزوار من كل ربوع المغرب وموريتانيا، يجدون فيه السكينة والتواصل الروحي. ومنذ الستينيات من القرن الماضي، ارتبط الضريح بموسم ديني سنوي، لم يقتصر على الجانب الاحتفالي والفرجة، بل تحول إلى مناسبة لتجديد الأواصر الاجتماعية وتأكيد عمق الانتماء الصحراوي المغربي.
غير أن المتتبع لتنظيم الموسم يلحظ استمرار اعتماده على نمط تقليدي، يُغلب الطابع الاحتفالي، دون تطوير أو انفتاح على الرسائل الرمزية والسياسية العميقة التي يمكن أن يحملها، خصوصًا في ظل انخراط المملكة بكامل مؤسساتها في الترافع الصامت والذكي عن قضية الصحراء المغربية. فالحدث، كما هو، ما زال أسير فقرات مكررة منذ النسخ الأولى، دون وعي كافٍ بدوره الرمزي الكبير.
ورغم بعض المحاولات الخجولة لربط الموسم ببعده الإفريقي أو بجذوره الصحراوية، إلا أنها تبقى محتشمة وغير ممنهجة، في الوقت الذي يمكن فيه استثمار هذه المناسبة كمنصة ثقافية وروحية لتثبيت مغربية الصحراء، عبر إبراز وحدة مختلف القبائل الصحراوية وتشابكها الديني التراثي والثقافي بالمنطقة، من أولاد أبي السباع والرقيبات وأولاد تيدرارين إلى قبائل أيتوسى وأولاد بوعشرة وغيرهم، كجزء من الهوية الجامعة.
ومع الأسف، هناك من لا يرى في الموسم سوى نشاطًا ثقافيا ترفيها معزولًا عن سياقه الوطني الأوسع، أو يعتبر الحديث عن الحضور القوي للقبيلة المنتمية للمجال الصحراوي الشرفاء اولاد أبي السباع فيه نوعًا من "التسييس". والحال أن هذه القراءة الضيقة تُفرغ الموسم من معناه الحقيقي ومن مقاصده الكبرى، وتُقصي مكونًا تاريخيًا أصيلًا في بنية الزاوية والمجال، بل وتُغفل على ما يمكن أن يكون أقوى رد عملي على الأطروحات الانفصالية لدى مناوئي وحدتنا الوطنية، وهو إبراز العلاقات الوطيدة التاريخية ما بين ساكنة المنطقة بسيدي المختار العبيدي السباعي وعمقها بالصحراء المغربية.
إننا لا نطلب تسييس الموسم، بل نطالب بتمكينه من أداء دوره الرمزي الوطني، عبر تعزيز الحضور الصحراوي فيه بقوة، وتوسيع مشاركة القبائل الصحراوية المرتبطة تاريخيًا بالمنطقة، لأن هذا التوجه لا يخدم جهة بعينها، بل يصب في مصلحة الوحدة الوطنية، ويؤكد أن المغرب ليس كيانًا جغرافيًا مفروضًا، بل هو ثمرة تلاقح تاريخي وثقافي عميق.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك الأثر الاقتصادي للموسم، من خلال تنشيط الرواج المحلي، والصناعات التقليدية، وفنون التبوريدة، فإن دعمه بشعار هوياتي قوي، وبرمجة علمية وروحية ثرية، وحضور وازن من ممثلي القبائل الصحراوية، وحضور إعلامي وازن سيكون عاملًا حاسمًا في جعل النسخ القادمة محطات استثنائية، تربط بين التاريخ والتنمية، وبين الروح والسياسة.
لذا، نلتمس من الجمعية المشرفة على تنظيم المهرجان مشكورة، ومن المنتخبين والسلطات المحلية تحت الاشراف المباشر للسيد عامل الإقليم المحترم، أن يولوا هذا الجانب الهوياتي العميق ما يستحقه من اهتمام، وأن يعملوا على تطوير الموسم شكلا ومضمونا، لأن في ذلك خدمة للمنطقة وللوطن. فالنجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد الولائم أو الزوار، بل بمدى إيصال الرسائل الرمزية التي ينتظرها المغاربة من موسم مثل هذا، في سياق وطني وإقليمي حساس.
فالدعوة إلى إحياء الحضور القوي للقبائل الصحراوية وعلى رأسهم الشرفاء اولاد أبي السباع في هذا الموسم ليس نداءً قبليا وفئوياً، بل خطوة في اتجاه تصحيح المسار، وتكريس الموسم كمنصة ثقافية وتاريخية تُعبر عن مغرب موحد، غني بتعدده، منفتح على عمقه الصحراوي والإفريقي، ومتجذر في تاريخه وشخصياته، وعلى رأسهم ابن الصحراء بحق سيدي المختار ابن سيدي عبيد السباعي دفين منطقة بئرانزران شمال مدينة الداخلة بالصحراء المغربية، أحد ياقوتات المغرب المضيئة.
ومن هذا المنطلق، فإن النسخ القادمة من موسم سيدي المختار السباعي مطالبة بأن تكون نسخ متميزة، من خلال مشاركة وازنة لممثلي القبائل الصحراوية، وعلى رأسها قبيلة الشرفاء أولاد أبي السباع، التي برهنت عبر القرون على تجذرها شمالاً وجنوبًا، كعنوان لوحدة الوطن وترابط مكوناته.
إن الدعوة إلى تعزيز الحضور الصحراوي في موسم سيدي المختار، وتوسيع مشاركة القبائل المتجذرة في الهوية الوطنية من شمال المملكة إلى جنوبها، لا تندرج في إطار قراءة فئوية أو محلية ضيقة، بل هي صميم ما تنتهجه الدولة المغربية، بقيادة رشيدة وحكيمة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي ما فتئ يؤكد في خطاباته ومبادراته على ضرورة تعزيز الارتباط الروحي والرمزي بين مختلف مكونات الأمة المغربية. ففي زمن تتكالب فيه الأطروحات العدائية على وحدتنا الوطنية الترابية، يأتي تثبيت رمزية هذه الزوايا، ومنها زاوية سيدي المختار السباعي، كأحد أعمدة المشترك المغربي المتين، ليمثل ترجمة ميدانية للسياسات الذكية التي تعتمدها الدولة في الترافع الثقافي والروحي عن قضية الصحراء. ومن هذا المنطلق، فإن ما ندعو إليه ليس سوى مساهمة مدنية وفكرية متواضعة في دعم هذا التوجه الوطني الكبير، الذي يروم ربط الماضي بالحاضر، والهوية بالسيادة، من خلال إشراك القبائل التاريخية، وعلى رأسها الشرفاء أولاد أبي السباع، في رسم معالم موسم يُجدد رمزية الانتماء للوطن الواحد، ويوصل رسالة قوية للأعداء والخصوم بأن الصحراء ليست مجرد جغرافيا، بل هي قلب نابض داخل كل زاوية، وكل ضريح، وكل قبيلة، وكل مغربي حر.
تعليقات الزوّار
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي سكوبريس