مدام فندال بيرت رائدة العمل الإنساني بحي عين الشق القديم

بين ثنايا حفريات بحوثنا المتواصلة، ووسط بحر كلمات حقول نبشنا التاريخي حول ملف حي عين الشق كنواة مدينة جديدة في عهد الحماية الفرنسية. استرعى انتباهنا ورود اسم مدام فندال Madame berth vandal 1902/1980 بكثرة تارة في مقر دار الخليفة وتارة أخرى بدار العسكري وتارة أخرى ببيت يوجد بالزنقة 44، هو اسم ظل يراود مخيلتنا لنطرح معه سؤالا مركزيا ربما يقودنا إلى إماطة الغبار عن هذا الإسم الكبير ذو الوزن الثقيل في سجل حوليات حي عريق؛ كحي عين الشق.
فمن تكون إذن مدام فندال؟
للإجابة عن هذا السؤال تم أولا الاستعانة بالأثر المكتوب في الأبحاث التي تكلمت عن الحي، وكذا في الكتب المهتمة بتاريخ أهم أحياء الدار البيضاء. لكن لجأنا في نفس الوقت إلى الشهادات الشفوية التي قدمها لنا زمرة من بعض الإخوة من أبناء الحي القدامى الذين شهدوا المرحلة وشهدوا لهذه السيدة الفرنسية بأهمية دورها الاجتماعي الكبير.
مدام فندال امرأة فرنسية كانت واحدة من ضمن أطقم جهاز الإدارة الفرنسية التي كانت مكلفة بتسيير مرفق المدينة الصغيرة لحي عين الشق عند بداية انطلاق تعمير منطقة أولاد حدو كقطب سكني جديد يواكب نهضة مدينة الدار البيضاء، ويجعل منها متنفسا سكنيا آخر خاص بالسكان المحليين.
أوكل إليها أمر تدبر الشؤون الاجتماعية لقدماء المحاربين المغاربة ضمن القوات الفرنسية التي حاربت ألمانيا في أوروبا، إذ كان لها مكتب خاص تشرف فيه على تسوية كل الأمور الإدارية المتعلقة بمعاشاتهم وحقوقهم ورعايتهم الطبية، خصوصا وأن غالبيتهم كانت لا تجيد التكلم باللغة الفرنسية ولا ترقى للتراسل مع الإدارات الفرنسية، فكانت بذلك تمثل الوسيط في كل هذه العمليات. بالإضافة إلى وقوفها الحي والمباشر مع عائلات مفقودي الحروب الهند الصينية التي سقط فيها عدد كبير من المغاربة في أسر القوات الأجنبية، ومن تم كان لزاما عليها كمساعدة اجتماعية أن تتكفل برعاية هذه العائلات وإيجاد مقاعد دراسية لأبنائها وتقديم الدعم المادي للأمهات الأرامل، وتسهيل مسطرة تسجيل أبنائهم بالمركب الاجتماعي بعين الشق (الخيرية)بل وتعدى دورها كل ذلك، لتسهر على الرعاية الصحية لمعطوبي الحرب وتسهيل خدمات التطبيب لهم عند الأطباء الفرنسيين والمستشفيات المحلية، وهو دور لعبته بكل إخلاص وتفان بعيدا عن كل شوفينية أو تعصب مسيحي ضد أهالي الحي المسلمين، بل كانت متجردة من كل هذا وذاك، ملتزمة بميثاق الخدمة الاجتماعية من باب الإنسانية الخالص. ولهذا أحبها السكان وأثنوا على مجمل أعمالها إذ كانت صديقة جد محبوبة لهم، تحضر أفراحهم كما أتراحهم قريبة منهم وخصوصا النساء اللواتي كن أميات وغير واعيات بأمور تدبر أحوالهن.
-شهادة قيمة يدلي لنا بها الأستاذ جناني بوشعيب رائد ذاكرة عين الشق وأمينها:
لقد كانت السيدة فندال، تعمل كمساعدة اجتماعية لقدماء المحاربين مع الجيش الفرنسي بدار العسكري قبل سنة 1957.
ثم انتقلت الى الزنقة 44 التي تسكن بها الفنانة حياة الادريسي. حيث كانت تستقبل المحاربين المغاربة من جميع انحاء المغرب (أزيلال/ بني ملال/ تادلة / وادزم.....) وتساعدهم في تسوية ملفاتهم وكل من كان يعرف أبجديات القراءة والكتابة تولجه سلك الامن الوطني ومنهم: ابي ادريس وكذلك المشروحي وغيرهم.......أما جيل المحاربين دون مستوى تعليمي معين فقد كانت تلحقهم بالقوات المساعدة.
وللإشارة كان لها محل فوق منزلها خاص بتربية الكلاب وكانت مغرمة ومحبة لهذا النوع من الحيوانات، تتجول بهم مرتين في الاسبوع وراء مارشي عين الشق وملعب الشورى وكان لديها ما يقارب من 20 كلبا.
كانت امرأة ذات نزعة إنسانية قوية تساعد كل العسكريين. بل وتمد لنا يد العون نحن كأبناء الدرب وشبابه .
غادرتنا المحبوبة مادام فندال، لما تم نقل مكتبها إلى شارع السكتاني وبقي مكتبها محروسا من طرف سي إدريس سكريتيرها ومساعدها الذي كان يوجه الناس الوافدين الى العنوان الجديد ( كرتيي كوتي).
ويزيد السيد الجناني مؤكدا أن مادام فاندال والصيدلي كونتي اسمان سوف لن ينساهم قدماء ساكنة حي عين الشق.
-شهادة أخرى من قلب محيط هذه السيدة الفرنسية يحكيها لنا أبناء مولاي إدريس سكرتير مادام فندال الخاص ودرعها الأيمن في العمل الاجتماعي وهما: مولاي عبد الله ومولاي أحمد يقول فيها الأول:
"إنها سيدة أجنبية طبعت تاريخ وذاكرة حينا عين الشق... وفي نفس الوقت طبعت ذاكرة اسرتنا باعتبار أن الوالد رحمه الله عمل الى جانبها لسنوات امتدت من سنة 1963 الى حدود 1977 "ثلاث سنوات قبل وفاتها" ككاتب بمكتبها الذي كان يوجد بالزنقة 44 رقم 10.
هي مساعدة اجتماعية تابعة للقوات المساعدة مكلفة بتسوية ملفات المعاشات لذوي الحقوق من ارامل وابناء الجنود المغاربة الذين قضوا في ساحات المعارك التي خاضتها فرنسا في الحرب العالمية الثانية وحرب الهند الصينية(لاندوشين)... هذا إضافة إلى السهر شخصيا على تتبع الحالات الاجتماعية التي تتطلب دعما، كانت فعلا محبوبة لتدخلاتها الخيرية والانسانية، هناك من تم التكفل به ووصل إلى أعلى المناصب داخل الوطن وخارجه.
لقد كانت مهووسة بتربية أنواع متعددة من الكلاب، كان سائقها مطالبا بإخراجهم كل يوم احد الى اولاد حدو حيث يرتعون هناك وكنت شخصيا ارافق السائق وانا صغير للاستمتاع بلحظات وانا انظر اليهم يركضون...توفيت سنة 1980 وتركت ثروتها لجمعيات الرفق بالحيوان.
- ويقول التاني وهو مولاي أحمد": لقد كانت تتجشم عناء السفر رفقة والدي الذي كان يشتغل كذلك سائقا لها ومترجما للحوارات والتواصل مع سكان مداشر وقرى الأطلس المتوسط. فتقضي هناك أياما مساعدة لهم، ومبسطة لهم كافة خطوات الاستفادة من معاشاتهم، وسبل تطبيبهم في مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، وتعويض أطراف بعض المحاربين المصابين ببعض الإعاقات بأطراف اصطناعية. كما أنها كانت تسعى لتقريب خدمات الرهيبات الاستشفائية بمستشفى الأم والطفل بعين الشق لكل نساء الحي، كما كانت تتوسط لبعض الأسر للإفراج عن أبنائها بمراكز الشرطة.
فعلا كانت السيدة فندال مغربية القلب بهوية فرنسية تساعد تدعم /تؤيد /وتترافع عن حق النساء والأطفال لعيش الحياة السليمة الخالية من الأمراض والمشاكل الأسرية.
أما الفنانة المغربية الكبيرة، حياة الإدريسي فقد صرحت هي الأخرى بشهادتها في حق هذه المرأة التي كانت جارة لهم بالزنقة 44. :" ذكرياتي مع هذ السيدة الفاضلة بأعمالها الإنسانية هي انها كانت دائما تحرس على مؤازرة الجيران في السراء والضراء، بحيث كلما وقع أحدنا في مشكلة ما إلا وطرق بابها ساعدته وكانت له نصيرا حليفا.
ونحن كأطفال كانت تنظم لنا رحلات كل يوم أحد او ايام العطل لاصطحابها الى الغابة الشلالات "كاسكاد «، وفي الصيف تأخذنا الى شاطئ البحر، كما كانت تشركنا في برامج الانشطة السياحية الجميلة.
ومازلت اتذكر جيدا يوم وشحها صاحب الجلالة الراحل الحسن الثاني بوسام من درجة عقيد " colonel "اتصلت بوالدي رحمه الله وطلبت منه مساعدتها للاحتفال بهذا الوسام مع الجيران، طبعاً في هذا الإبّان كان اختلاط الرجال والنساء في اعراسنا قليل جداً فاقترح عليها والدي رحمه الله ان تخصص يوم الجمعة للرجال طبعاً لتلاوة القران مع (الطلبة) ويوم السبت للنساء مع بعضهن
رحم الله الجميع، كان زمنا جميلا بناسه البسطاء تحياتي وتقديري للجميع.
معلومة اخرى عن هذه السيدة نضيفها في آخر مقالنا هذا التكريمي للسيدة مدام فندال؛ وتتمثل في توشيحها اواسط السبعينيات بأعلى وسام تمنحه الجمهورية الفرنسية وهو وسام جوقة الشرف" legion d’honneur " نظير الخدمات التي قدمتها على المستويين الاجتماعي والانساني وتم ذلك بالقنصلية الفرنسية بالدار البيضاء بحضور شخصيات سامية فرنسية ومغربية..
ذاكرة حي عين الشق العتيق.

تعليقات الزوّار
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي سكوبريس