نوستالجيا أولاد كازا / عــــــرس فــي حـيــنـــــــا

أعراس الستينيات والسبعينيات تختلف عما هو عليه حفلات الزواج اليوم، وأبناء جيلي يدركون هذا البون الشاسع بين أعراس الزمنين، ذلك أن فرحتنا كانت كبيرة، عندما يشرع الجيران في تهيئ حفل عرس بحومتنا، وكنا نستشعر نسيم نشوة يتسلل إلى دواخلنا، ونحن نراقب أشغال بناء حفلة كبيرة في أحد أزقة حينا. فطعم العرس رائحته تلامس الحارة بكاملها.
يسألونني عن أعراس الأمس، وكم تدوم مدتها، وأنا الذي عشت تفاصيلها في أكثر من مناسبة كطفيلي، مثل أطفال الحي. فيكون جوابي، ثلاثة أيام لا تكفي أحيانا، لأن الفرحة تعم فضاء الحي بأكمله، والسعادة تغمر ساكنة الدرب دون استثناء، على اعتبار أن أول المدعوين، هم الجيران.
في غياب ثقافة قاعات الحفلات، كان العرس يقام في السطوح، أو في الزقاق أمام الدور السكنية، حيث يشرع المتطوعون من الجيران في بناء الحفل من الخشب يوم الخميس، ونحن نراقب ونلعب ونعدو ونغني تعبيرا عن فرحتنا بإقامة عرس في حينا. فكنا لا نبخل في تقديم المساعدة على قدر مجهودنا الجسدي، كلما طُلب منا ذلك، خصوصا عندما يتعلق الأمر بحمل بعض الأواني، لأن مستلزمات الحفل يساهم في إحضارها الجيران (موائد ـ زرابي ـ سدادر ـ برارد ـ سواني ـ كؤوس ...)
تنظيم العرس وبرمجة فقراته، كانت موحدة آنذاك. ففي يوم الجمعة، كنا ننتظر الهْديَة، وهي عبارة عن عربة يجرها حصان، ويتقدمها رجل يسوق عجلا، مفروض أن يكون زُوهْريا حسب التقاليد. وخلفها غياط يعزف على مزمار، يتوسط ضاربَيْ طبل، وفوق العربة المحملة بالدْفوع (سكر ـ زيت ـ طحين ـ لباس...) راقص يرتدي زيا تقليديا نسائيا، يضبط الإيقاع الموسيقي بمقص كبير. هذا الرجل الذي يُغيّـر جنسه مضطرا لصناعة الفرجة، كان يثير فضولنا نحن الأطفال، ويدخلنا في دوامة الاستغراب و....
الحفل الرسمي يبرمج يوم السبت ليلا، ويخصص للرجال فقط، ويمتد حتى فجر اليوم الموالي. وعلى امتداد هذه المساحة الزمنية، تقوم الشيخات بتنشيط الحفل وتقديم الفرجة المتنوعة من غناء ورقص وأشياء أخرى. وبما أن الأطفال ممنوعون من حضور الحفل، كنا نسترق الفرجة من شقوق الحفلة المنتصبة من الخشب، ونتهامس فيما بيننا عما تفعله هذه الشيخة أو تلك، مع هذا المدعو وذاك، حيث ترقص أمام كل واحد طلبا للغرامة، فكان الحاضرون يمنحون الشيخة ورقة نقدية، يضعونها في مكان ما من جسمها، فتعلو الضحكات والقهقهات. ويستمر السمر على نغمات العيطة وجرعات الكؤوس.
كنا ننتظر وقت العشاء، ومع هبوب زوبعة الأكل، تتوقف الفراجة، وينخرط المدعوون في تبادل أطراف الحديث، بعد أن يتحلقوا حول موائد الإطعام (عشرة على الماعون). ولعل ما كان يقدم آنذاك للمدعوين، لا يتجاوز اللحم والسّــفة. ومن هنا جاءت مقولة (احبـيييس الســفة).
كان نصيبنا نحن الأطفال من الأكل (خبيـــز فيه لحيمة) وفي أحسن الأحوال تهيئ لنا الطباخة طبقا مما تركه المدعوون، ولم يكن هذا يزعجنا، بل كنا ننشد فرحة لا تضاهى، ونحن نأكل ما جاد به أصحاب العرس على أطفال الحي.
زوال يوم الأحد، يخصص للنساء فقط، وبما أن أعراس زمان، لم تكن تعرف الاختلاط بين الجنسين، فإن مجموعة العوْنيات هن اللواتي ينشطن فقرات الحفل، أو يقع الاختيار على جوق العميين، حيث يختلط الغناء بالرقص، وتمتد الفرجة إلى ما بعد مغرب الشمس. فكنا نحن الأطفال نقتنص لحظات الاستمتاع بملقاط المشاهدة من الشقوق، ننتظر ـ طبعا ـ ما تطعمنا به الطباخة من أكل بأمر من أهل العرس.
تعليقات الزوّار
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي سكوبريس